Sunday, April 17, 2011

قول الفلاسفة في ايجاد الكون والرد عليهم

قولهم في إيجاد الكون


الفلاسفة المؤلهة لا يعرفون الإيجاد من العدم ولا يقرون بأن الله تبارك وتعالى خلق الأشياء وأبدعها وهو مدبرها والمتصرف بشؤونها، وإنما يزعمون: أن المادة قديمة لا موجد لها ولا خالق، ويعزون إلى الله تبارك وتعالى نوع تأثير فيها، ويعزون إلى آلهة أخرى فاضت منه أو صدرت عنه الإيجاد والتدبير، على خلاف بينهم فيما نقل عنهم من رأي في ذلك، فإن بعضهم قد نقل عنه في ذلك كلام كثير، ومنهم من لم ينقل عنه إلا العبارات القليلة، فنذكر هنا قول بعض كبرائهم ومنهم:


سقراط: فقد زعم كما ذكرنا عنه من قبل: أن ثمة صانعاً فوق الآلهة ومدبراً فوق سائر الآلهة، والآلهة الأخرى هم أدوات يستعين بها في صنع الوجود[78].


أما أفلاطون: فيزعم أن الله هو علة وجود العالم وسببه، ويزعم أن صور الأشياء[79] التي يسميها المُثل أزلية، كما يعزى إليه أن المادة[80] أزلية أيضاً، وهي في حركة دائمة، وأن الصانع أوجد: أولاً النفس الكلية مما يسميه المتشابه واللامتشابه، فصنعها شبيهة له فهي إلهة.


ومن النفس الكلية صنع العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب. وأنه صنع من ذلك الكواكب، وجعل لها نفوساً خلقها مما بقي من خلق النفس الكلية، وجعلها آلهة عاقلة خالدة واتخذ منها أعواناً تصنع نفوس الخلق الآخرين.


ويقول: إن الصانع يعتني بسائر مصنوعاته كلياتها وجزئياتها[81].


أرسطو: يزعم أن الصورة والمادة قديمتان أزليتان ليستا مخلوقتين، وهما متحركتان في الأزل موجودتان مع المحرك الأول الذي يزعم أنه الله، ثم إن المحرك الأول بغير أن يتحرك حرك الصورة والمادة فاجتمعتا فتكون من اجتماعهما الأجسام، وهو يرى أن الله تبارك وتعالى هو سبب نظام الأشياء الموجودة وترتيبها فقط وأنه لا يتدخل في الأحداث الجزئية ولا يعتني بشيء في الوجود خلا ذاته[82].


أما أفلوطين المصري: فيزعم أن هناك عالمين:


أحدهما: عالم المعقول، وهو ثلاثة: الله والعقل والنفس[83].


والله عنده هو الأول، وقد صدر عنه العقل وهو شبيه به.


والعقل: هو الحامل للصور وهو أبدي لا يفنى.


أما النفس: فقد صدرت عن العقل وهي شبيهة بالعقل وهي حاملة للصور بشكل أكبر من العقل.


ثانيهما: عالم المحسوس، وقد صدر عن النفس الكلية ونتج عنها، فهي التي صنعته وأوجدته، كما أنها هي التي أمدته بالنفوس التي تبث الحياة فيه، وعنده أن الله تعالى لا يعتني إلا بالأشياء الكلية، أما الأمور الجزئية والفردية فلا يعتني بها ولا يعلمها[84].


بيان بطلان قولهم:


أقوال الفلاسفة السابقة في إيجاد الكون يمكن أن نلاحظ منها شيئاً وهو: تركب بعضها على بعض.


فسقراط شيخهم المتقدم زعم أن هناك إلهاً أكبر وآلهة دونه تساعده في صنع هذا الوجود.


ثم جاء أفلاطون تلميذه فرتب هذه المقالة فزعم: أن الصور مع الإله الواحد قديمة ،ويعزى إليه قدم المادة أيضاً، فشقشق كلاماً حتى يوجد رابطاً بين الإله الواحد والصور والمادة يتوصل منه إلى إيجاد هذا الكون، فاخترع النفس الكلية وادعى تكونها من المادة والصورة وهي التي تولت من بعد إيجاد الكون، فأخذ بهذه الدعوى كل من جاء بعد أفلاطون من الفلاسفة فبنوا كلامهم على هذه الأربعة أشياء: الإله، الصورة، المادة، النفس الكلية، على خلاف بينهم في بعض المسميات والترتيبات حسب قدرة الفيلسوف على التخيل والتعبير.


ومن هنا يمكننا أن نقول إن قول الفلاسفة في إيجاد الكون يتلخص في أن هناك موجودان أزليان وهما الله تبارك وتعالى وأصل مادة العالم، وأن الله تبارك وتعالى بدون أن يفعل شيئاً أو يريد شيئاً تكوَّن العالم وتصور على الصور المحسوسة بفعل وسائط صدرت عن الله تبارك وتعالى، وفي هذه الدعاوى من الفساد ما هو ظاهر واضح البطلان ومما يرد عليهم في ذلك أن يقال لهم:


أولاً: إن دعوى أن المادة والصورة أزليتان وغير مخلوقتين وهو ما يسمى بقدم العالم عندهم قول فاسد ظاهر الفساد، إذ أنه يلزم منه أن المادة والصورة وجدا من غير شيء، وهذا معلوم الفساد ببداهة العقول، فإن كل موجود لابد له من موجد حتى ينتهي إلى الموجد الأول، وهو الخالق تبارك وتعالى، وإلا لزم من ذلك التسلسل إلى ما لا نهاية وذلك باطل ومستحيل.


ثانياً: قولهم بأنه صدر عن الله أولاً النفس الكلية أو العقل ثم نفوس الكواكب إلى آخر كلامهم في هذا، كله ضرب من الظن والتخمين الذي لا يمكن بحال أن يقول بصحته إلا كل سفيه لا عقل له ولا دين، لأنه ليس قولاً مبنيا على أي معنى علمي، كما أنه لم يبن على ما هو مشاهد ومحسوس، إنما هو فرية افتراها أفلاطون وتبعه عليها من جاء بعده من الفلاسفة،


وأصل هذه المقالة والموجب لها اعتقادهم أن الله تبارك وتعالى لا يوصف بشيء من الصفات الثبوتية، فاحتاجوا بناءً على اضطرارهم للقول بالخالق لوجود المخلوقات إلى القول بوجود الوسيط بين الخالق أو من يسمونه المبدع الأول: الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ولا يملك شيئاً وليس له صفة، وبين المخلوقات، وهذا الوسيط هو النفس الكلية أو العقل على خلاف بينهم في التسميات، وهو الذي تولى إيجاد نفوس الكواكب ثم العناصر وما إلى ذلك من ضروب الظن والتخمين الفاسد.


وهذه الدعاوى تطورت عند من جاء بعده إلى زيادة العقول وترتيب هذه المقالة وفق ما يرون من تصحيح أو زيادة.


وهذا كله محض افتراء وكذب، وخيال عقلي، وأشبه بأسطورة من الأساطير منه ببيان علمي، والدليل على ذلك أمور:


1- أن مصدر العلم الصحيح إما التجربة أو المشاهدة أو الخبر.


ولا شك أن الله تبارك وتعالى ليس داخلا لا ذاته ولا صفاته تحت مشاهدتهم ولا تجربتهم، وكذلك أصل العالم ومادته وإيجاد الله له كما قال عز وجل {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}الكهف(51).


فكل ذلك ليس مجالاً للمشاهدة والتجربة، كما أنهم ليس لهم مصدر علمي صحيح أخبرهم بذلك، فإذاً عادت دعواهم إلى مجرد خرص وتخمين فاسد بعيد كل البعد عن العلم الصحيح والنظر الصحيح.


2- أن تناقض الفلاسفة وزيادة بعضهم على بعض في هذه المقولة وتخطئة بعضهم لبعض في ذلك دليل على أن الأمر يعود إلى قدرة كل واحد منهم على الخرص والتخمين أكثر من الآخر، وذلك دليل على أن الأمر ليس حقيقة علمية يجب التسليم لها، وإنما هو تعبير خاص من قائله يعود إلى رأيه ونظره ولا يعود إلى أن ذلك هو حقيقة الأمر وواقعه.


ولو فهمت هذه الآراء على أنها آراء خاصة بأصحابها لكان الخطب يسيراً ولكن مع الأسف فقد جعلت تلك المقالات الفاسدة والآراء الكاسدة حقاً ثابتاً ويقيناً راسخاً يقاس غيرها عليها، ويقرب ما نفر عنها منها، وهي حكم على ما سواها، وهذا انحراف خطير، وخروج بالأمر عن مساره، وقلب لموازينه، إذ أن حقيقة الآراء المبنية على الخرص والتخمين أن تبقى آراءً خاصة لا تتعدى قائلها، ولا تعطى أي صفة علمية.


ثالثا: أن ما ادعوه من النفس الكلية والعقل إن أثبتوا له الإرادة والقدرة على التصرف فقد زعموا أن المبدع الأول، على حد تعبير بعضهم قد صدر عنه الإرادة والفعل، مع أنه في زعمهم فاقد لهذه الصفات، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإن لم يثبتوا للنفس الكلية أو العقل الإرادة والقدرة والفعل فقد عاد الأمر كما كان بالنسبة للمبدع الأول، فتكون النفس الكلية أو العقل مسلوبي القدرة والإرادة والفعل ومعطلين، فلا يمكن أن يوجد ويدبر ويتصرف كما هو الحال بالنسبة للأول، ولازم ذلك عدم وجود المخلوقات وذلك باطل معلوم البطلان.


رابعاً: دعواهم أن العقل أو النفس الكلية هي التي أوجدت الكون ورتبته ووضعت فيه نظامه وأحكمته وما إلى ذلك مؤد إلى أن المبدع الأول فيما يزعمون أوجد من هو أفضل منه وأكمل وأجل وأقدر وهذا خلف وضلال مبين، فكيف يوجد من هو أفضل منه وهو عندهم في الأصل عاجز تمام العجز.


خامساً: إن زعمهم أن الكواكب لها نفوس تدبرها وهي التي أوجدت الإنسان وما إلى ذلك، ظاهر فيه الكذب والضلال، فإن من أعظم الكواكب الأرض وفيها من الخيرات والأحوال ما ليس في غيرها ومع ذلك فظاهر لكل ذي عينين أنها جامدة مسخرة لا روح فيها، وإنما هي مكونة من تراب وحجارة وماء وغير ذلك من المواد الجامدة، ولها نظام في شكلها وهيئتها ووضعها في هذا الكون لا يمكن بحال أن تخرج عنه بنفسها، ولا يمكن أن تكون أوجدته هي بنفسها، فإذا كان هذا حال الأرض فالكواكب الأخرى لا شك مثلها في ذلك وهي أبعد عن أن تكون لها أرواح تدبر أمرها، وفي هذا الوقت اتضح كذبهم وظهر أكثر من ذي قبل خاصة بعد وصول أناس من البشر إلى القمر وما لم يصلوا إليه استطاعوا أن يصوروه أو يروه بالمكبرات فلم يتبين فيها إلا أنها أقل حالاً من الأرض بل إنها فاقدة لكل معاني الحياة على ظهرها، فبالتالي ادعاء أن لها أرواحاً وأنها مدبرة لهذا الكون أو موجدة لا يعدو أن يكون من الأساطير السخيفة التي لا تروج إلا على أسخف الناس عقلاً وأبعدهم عن الإدراك السليم.


سادساً: إن من نظر في قول الفلاسفة في إيجاد هذا الكون يدرك أنه مبني على أمرين:


الأمر الأول: نظر عقلي فاسد أوصلهم إلى أن الله ليس له أي صفة ثبوتية سوى الواحدية أو الأولية وهذا من أجل أن يتوصلوا إلى إثبات علة للوجود.


الأمر الثاني: الوثنية المغرقة في الضلالة والخرافة مما كان عليه المجتمع اليوناني في زمنهم من تأليه الكواكب واعتقاد أنها التي أوجدت هذا الكون وتتصرف فيه.


فركب الفلاسفة قولهم من هذين الأمرين وكلاهما واضح بطلانه ظاهر سخافته وتهافته.


وقبل أن ننهي الكلام عن قول الفلاسفة ودعاويهم في صفات الله تبارك وتعالى وفعله وإيجاده لهذا الكون لابد أن نشير إلى أمر مهم وهو:


أن الفلاسفة قد يكونوا أجادوا بعض الإجادة في الكلام عن بعض المخلوقات أو الأمور المعنوية المتعلقة بالسياسة أو التربية ونحو ذلك، وكلامهم هذا مهما بلغوا فيه من حسن القول والإجادة لا يلزم أن يكونوا أهلاً لأن يتكلموا فيما وراء طاقة الإنسان وقدرته سواء فيما يتعلق بالله عز وجل، أو المخلوقات غير الظاهرة للعيان، فذلك غيب عن الإنسان، وعقل الإنسان وقدراته متعلقة بما يراه أو يرى شبيهاً له فيقيس عليه.


فحديثهم عن الله جل وعلا وحديثهم عن تكوين الكون ومادته وأصله كله كلام في أمر غير داخل تحت طاقتهم وقدرتهم، وكلامهم فيه لا يعدو أن يكون ككلام المتطفل على علم لا يحسنه. وهم في هذا مثل طبيب من أمهر الناس في الطب مثلاً هل يليق أن يذهب إليه أحد بناءً على حذقه في الطب فيسأله عن مسألة شرعية أو مسألة متعلقة بالسياسة أو مسألة متعلقة بالهندسة، لا شك أن هذا لا يليق ولا يصح.


ومن رام أن يأخذ من الطبيب جواب مسألة شرعية دقيقة أو مسألة متعلقة بالهندسة أو المحاسبة فهو مخطئ. فكذلك من رام أن يجد عند هؤلاء الفلاسفة علم ما يتعلق بالله عز وجل فقد أخطأ الطريق وأخطأ الهدف.


ثم إنه من رحمة الله عز وجل لما كانت وسائل البشر إلى معرفته المعرفة الصحيحة الكاملة مسدودة إلا من خلال الوحي أنزل الله في ذلك كتبه وأرسل رسله لتعليم الناس وتعريفهم به، وهذا من أعظم الرحمة وأعظم المنة من الله عز وجل على خلقه، لأنه بذلك يهيئ من شاء منهم إلى رحمته العظمى ورضوانه الأكبر في جنات عدن

No comments:

Post a Comment