يجمع محمذن المجيدري بن حب الله اليعقوبي، الذي قيل إنه أحد أربعة شناقطة لم يبلغ أحد في قطرهم مبلغهم، بين عدة صفات تميزه عن غيره: فهو مشهور إلا أنه ضائع الأخبار، وهو عالم لا يشق غباره إلا أن علمه حوصر وتم تغييبه عن الساحة الثقافية، وهو مذكور في عدد كثير من المصادر العربية والموريتانية إلا أن ترجمته تبقى رغم ذلك ناقصة مبتورة. فمن العجيب أن محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي -وهو من أهل بارك الله ابناء عمومة المجيدري- من أسباب تأليفه لكتابه العمران -كما يقول ابن الفلالي- استعراض رسالة للمرتضى الزبيدي وأخرى لأحمد جمل الليل موجهتين للمجيدري، وما إن بدأ في استعراضهما حتى انبتر النص وضاع ذلك الجانب المهم من كتابه فلم نجد ذكرا لهاتين الرسالتين في النسخ المتداولة من كتاب العمران.
ولتوضيح بعض أخبار هذا الشيخ الجليل، المنتمي إلى أسرة أهل أشفغ موسى (من قبيلة إديقب)، وهو السني السلفي والرحالة الحاج، رأينا أن نتناول تأريخ رحلته إلى الحج متى كانت تحديدا فربما ساعد ذلك على معرفة جانب من حياته الغنية وربما بين موضوعا أساسيا من ترجمته. متي حج المجيدري؟ سنعود إلى نصوص محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي، ونعني بنصوصه ما أورده في كتابه العمران الذي تحدث فيه عن آبار قبيلته أهل بارك الله وجانبا من تاريخ هذه القبيلة، وما أورده سيدي أحمد بن الأمين العلوي في كتابه الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ففي المرجعين نصوص تحدثت عن رحلة المجيدري إلا أنها غير صريحة في تدقيق تاريخ تلك الرحلة ولا تفاصيلها، فصاحب الوسيط مثلا يقول عنه: "واتصل بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله ونال الحظوة عنده. ورحل إلى المشرق وأكرمه أمير مصر.". (انظر الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص 215). وأهم ما في هذه الملاحظة نقطتان: أولا أن المرحلة المغربية وكذلك المرحلة المصرية من رحلة المجيدري سبقتا المرحلة الحجازية فقد أقام بالمغرب ثم بمصر وهو في طريق الذهاب. وثانيا أن علاقات المجيدري فيما يبدو لم تكن بالناس العاديين فقط بل أيضا بالسلاطين. وإذا كان السلطان المغربي الذي لقيه المجيدري هو السلطان محمد بن السلطان عبد الله بن السلطان إسماعيل العلوي، فمن المعلوم أن هذا السلطان كان قد اعتلى عرش المغرب سنة 1171هـ بعد وفاة أبيه وهو الذي اتخذ مراكش عاصمة له بعد أن كانت مكناس عاصمة الدولة الإسماعيلية وقد ظل هذا السلطان في الحكم حتى توفي في نفس السنة التي توفي فيها المجيدري أي سنة 1204هـ. وهذا يعني أنه استمر في الحكم ثلاثا وثلاثين سنة (33 سنة). والسلطان محمد بن عبد الله يمت للموريتانيين بصلة: فجدته لأبيه، التي ربته وحج معها وهو ولي العهد، ما هي إلا خناثة بنت بكار بن اعلي البركنية (من البراكنة) كما هو معروف. وفي عهد هذا السلطان وخلال هذه الثلاث والثلاثين سنة الممتدة من 1171 والمنتهية سنة 1204هـ، حل المجيدري بمراكش، واتصل بالملك، ونال عنده حظوة. فمتى تم كل ذلك؟ للجواب على هذا التساؤل، سنعود ثانية لكتاب الوسيط وفي مكان آخر منه عسى أن نهتدي إلى ما نريد. فقد ذكر سيدي أحمد بن الأمين أثناء ترجمته لسيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي، الفقيه التجكجي الشائع الذكر، والمتوفى سنة 1233هـ 1818م، أن السلطان المغربي محمد بن عبد الله أرسل في طلبه لما حل بمراكش، فلما ذاكر الملكُ ابنَ الحاج إبراهيم "أعجب به وصار لا يصبر عن مذاكرته. فسأله بعد تسع سنين عن نسبه؛ فأخبره أنه علوي وبين له. فقال: سبحان الله: أنت معنا منذ تسع سنين لم تذكر لنا نسبك يوما واحدا وفلان أتعبنا بنفسه، يعني المجيدري اليعقوبي وكان جعفريا".( انظر الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص 38). ومع أن في نص صاحب الوسيط هذا غلطا وتقصيرا في الشرح، إلا أننا سنستغله في جانب من جوانبه، ونعني بالغلط أن سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم لم يمكث في حجه بجميع مراحله تسع سنين أحرى أن يكون مقامه بالمغرب وحده كان تسع سنين، وآية ذلك أن تلميذ سيدي عبد الله المقرب منه جدا ونعني المؤرخ الطالب أحمد بن طوير الجنة يقول في تاريخه ما نصه: "وفي الموفي تسعين (يعني 1190هـ) قدم شيخنا إلى تججكه جائيا من الغرب ومكث في حجه سبع سنين".0 انظر: تاريخ ابن طوير الجنة، تحقيق سيدي أحمد بن أحمد سالم، ص 78، طبعة معهد الدراسات الإفريقية الرباط سنة 1995.) فإذا اعتمدنا على ما قاله ابن طوير الجنة، الذي كان من أخص تلامذة سيدي عبد الله وألصقهم به، نجد أن حجة سيدي عبد الله وسفره ذهابا وإيابا تمت ما بين 1183هـ و1190هـ أي خلال سبع سنين لا تسع سنين وذلك ما نعنيه بغلط صاحب الوسيط .أما التقصير في الشرح الذي وصفنا به نص صاحب الوسيط، فيعود إلى أن ذكر المجيدري لنسبه في حضرة السلطان المغربي لم يكن مجانيا ولا من باب الافتخار بالنسب في نظرنا بل هنالك أسباب موضوعية وتاريخية تتعلق -في نظرنا- بقضية الأوقاف الحجازية وحرمان الشناقطة منها،قد دفعت المجيدري وبغيره من رحالة الشناقطة إلى ذكر نسبه مرارا للملك المغربي، ربما غابت تلك الحيثيات عن ابن الأمين وعن غيره، وقد نبهنا إليها وحللناها في مقال لنا منشور لا يسع المقام هنا إلا للإحالة عليه. (انظر سيدي أحمد بن أحمد سالم : علماء البلاد الشنقيطية ورحلة الحج في القرون الماضية، مجلة الموكب الثقافي الصادرة عن اللجنة الوطنية لليونسكو بموريتانيا العدد 2 و3 السنة 1995 ص 49-57) إذا تجاوزنا هذه الملاحظة التي تبين أن مقام سيدي عبد الله بالمغرب مع المولى السلطان محمد بن عبد الله كانت أقل من تسع سنين، نرى أن سيدي عبد الله مر بمراكش بعد المجيدري فمروره بالمغرب إذن كان قبل سنة 1183هـ وكان بطبيعة الحال بعد سنة 1171هـ، أي سنة ولاية المولى محمد بن عبد الله، فتنبه إلى ذلك وتفطن. الراجح إذن أن المجيدري وصل إلى المغرب الأقصى مع مطلع ثمانينيات القرن الثاني عشر أي قريبا من 1180هـ. ولننتقل إلى مرجع آخر سيقربنا أكثر من تحديد تاريخ حجة المجيدري إذ ذكر العلامة ومحدث القرن الماضي ومفخرة المغرب الأقصى عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني في كتابه فهرس الفهارس أنه رأى "بهامش الإتحاف نقلا عن الشيخ صالح الفلاني أنه قال: ورد علينا من المغرب حافظان محمد المجيدري من آل بارك الله والسباعي يعني الجيلالي بن المختار أحدهما يبقى ما في حفظه ستة أشهر والآخر يبقى ما في حفظه عاما". (انظر فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي الكتاني، الجزء الأول، ص 297 و ص 298، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1402/1982) ويوضح لنا الكتاني أثناء ترجمته للسباعي المذكور وهو سيدي الجيلالي بن أحمد بن المختار، ويبدو أنه أحد أعيان قبيلة أولاد بالسباع، وقد توفي بمصر سنة 1213هـ، وكان غاية في الحفظ يحكى عنه أنه قال: "ما ألْقَتْهُ، ولو مرة، أذني أو عيني في مخيلتي ارتسم نحو الستة أشهر في حفيظتي". ومن هذا النص المسنود إلى السباعي والذي يتحدث فيه عن نفسه نفهم أنه كان يحفظ ما سمع أو رأى مرة واحدة مدة ستة أشهر وأن المجيدري إذن كان يبقى ما سمعه أو رآه سنة. فهذا منطوق ومفهوم كلام المحدث المغربي عبد الحي الكتاني الذي مر بنا آنفا. ولنعد قليلا إلى صاحب النص الذي ذكر أنه التقى في نفس السنة بهذين العالمين القادمين من جهة المغرب وهما المجيدري والجيلالي السباعي فهو صالح بن محمد بن نوح الفلاني العمري وهو كما يقول عبد الحي الكتاني وغيره ممن ترجم له أنه أحد أبناء منطقة فوتا، المحاذية لنهر السنغال، وأنه ولد سنة 1166هـ في فوتا جالون، وتعلم بمنطقة القبلة على المختار بن بونه الجكني وذلك سنة 1179هـ، ثم انتقل إلى عالم فلاني يسمى محمد بن سنة ومكث معه ست سنين في مكان يسمى باغو، ومن ثم انتقل إلى تنبكتو ومنها إلى الزاوية الناصرية الشاذلية بوادي درعة جنوب المغرب، ثم إلى مراكش فتونس فالحجاز الذي حل به سنة 1187هـ. ( انظر عبد الحي الكتاني: فهرس الفهارس والأثبات ج 2 ص 901 وص 902). وقد توفي صالح الفلاني بالمدينة المنورة سنة 1218هـ بعد أن اشتهر بكونه محدث الحجاز بلا منازع في نهاية القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر. لقد قدم صالح الفلاني الحجاز سنة 1187هـ واشتهر به صيته وذاع وأصبح فخر السادة المالكية وشيخ أهل الحديث بالمدينة المنورة وها هو يقول "ورد علينا من المغرب حافظان محمد المجيدري من آل بارك الله والسباعي..." فعبارة ورد علينا هذه وقعت بعد سنة 1187هـ دون ريب ما دامت هذه السنة هي سنة قدوم صالح الفلاني على الحجاز على هذا فقدوم المجيدري على الحجاز كان بعد هذه السنة لا محالة. ولا ننسى أنه مر بالمغرب مع مطلع ثمانينيات القرن الثاني عشر كما رأينا آنفا عندما وقفنا على نصي صاحب الوسيط وابن طوير الجنة، وقد غادر المجيدري المغرب متجها نحو مصر وقد أقام بها كما هو مذكور في المصادر ومروي في الحكايات المتداولة. وفي ظني أن إقامة المجيدري في مصر كانت أطول مراحل رحلته إذ كانت عدة سنين فإذا اعتبرنا أنه غادر المغرب الأقصى قبيل سنة 1183هـ سنة حجة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم وأنه لم يصل الحجاز إلا سنة 1187هـ -اعتمادا على نص صالح الفلاني- تبين أن فترة إقامته بمصر تزيد على خمس سنين لا محالة. و النصوص المكتوبة والحكايات المروية حول إقامة المجيدري بمصر كثيرة فهذا محمد عبد الله بن البخاري ينوه بعلاقاته العلمية بمصر وخاصة مع عالمها الفذ السيد مرتضى الزبيدي قائلا: "كان مرتضى الزبيدي يعطي لمحمذن المجيدري ما كتب من شرحه على القاموس يصححه له وربما خط على سطر أو سطرين من تلك الشروح وسلم له المرتضى." (انظر: كتاب العمران لابن البخاري بن الفلالي ص 69.) والمرتضى المذكور أحد أعيان العلماء في القرن الثاني عشر الهجري بمصر وهو صاحب التأليف الكثيرة التي منها تاج العروس وقد شرح به معجم القاموس للفيروزآبادي. وظل المرتضى يراسل المجيدري كما ذكر ذلك محمد عبد الله بن البخاري في كتاب العمران. ويذكر أن للمرتضى معجما ترجم فيه لمشائخه ومنهم المجيدري إلا أن النسخة الوحيدة من هذا المعجم والمودعة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة والتي ما زالت مخطوطة لا يوجد منها سوى الجزء الأول الذي ينتهي عند عرف العين ونرجو أن يتم العثور على بقيته حتى نحصل على ترجمة الزبيدي التي خصصها للمجيدري. (أصبحت مكتبة عارف حكمت جزءا من مكتبة الملك عبد العزيز الواقعة غرب الحرم المدني الآن، وقد اطلعت على نسخة معجم الزبيدي هذه سنة 2007 وصورت منها صفحات فيها ذكر لبعض الشناقطة). وقد مر بنا كلام ابن الأمين صاحب الوسيط عن إكرام أمير مصر له وهو ما يؤكد أهمية المرحلة المصرية من رحلة المجيدري. وإذا أضفنا إلى هذه العناصر المختلفة أن المجيدري قد توفي سنة 1204هـ بإنشيري بموريتانيا، ومزاره مشهور قرب مدينة أكجوجت، وأنه ما توفي حتى نشر مذهبه السلفي ودعا الناس إليه ولاقى المشاق وتعنت العلماء وجدالهم ومهاجاتهم. وأن أكابر علماء وأشياخ عصره كالمختار بن بونه الجكني المتوفى 1220هـ والشيخ سيدي المختار الكنتي المتوفى سنة 1226هـ وابن عمه سيدي عبد الله بن الفاظل اليعقوبي الباركي، الذي يلقبه ابن أخته الشيخ محمد المامي "فحل تيرس"، والمتوفى سنة 1209هـ كانوا من أبرز أنداد المجيدري، فهمنا أنه رجع من حجه وأقام بموريتانيا برهة من الزمن مكنته من نشر دعوته السلفية، ومواجهة ما نجم عن ذلك من أحداث. وكل هذا لا يمكن أن يتم إلا في ظرف زمني طويل نسبيا. ولنفترض جدلا أن المجيدري أمضى العقد الزمني الأخير من عمره وهو في سبيل نشر مذهب السلفي الإصلاحي والدعوة إليه بعد عودته من الحج، لأن نشر مذهب والدفاع عنه يتطلب وقتا، وعلى هذا الافتراض قد يكون المجيدري ربما عاد إلى موريتانيا قريب من 1194هـ. وكحصيلة لما سبق يمكن أن نعتبر أن سفر المجيدري نحو المشرق تميز بكونه ينقسم إلى ثلاث مراحل هامة: مرحلة مغربية تمت ما بين 1180هـ وانتهت مع سنة 1183هـ. مرحلة مصرية بدأت مع سنة 1183هـ وانتهت مع نهايات قريب مع نهايات ثمانينات القرن أي 1189هـ. مرحلة حجازية: وكانت في السنوات الأولى من تسعينات هذا القرن الثاني عشر الهجري (1190 إلى 1193هـ تقريبا). يبقى أن نشير إلى أنه من المفيد لدراسة حياة المجيدري ومذهبه الإصلاحي وموقفه السلفي أن يقع الاهتمام بالبحث عن تفاصيل حياته هو لكن أيضا أن يتم التركيز على السياقات الثقافية المختلفة والرجال الذين التقى بهم شرقا وغربا. ولا شك أن كتاب العمران لمحمد عبد الله بن البخاري يبقى من أهم المراجع المكتوبة التي فيها نتف ونماذج من حياة هذا الشيخ الفذ. |
Wednesday, April 17, 2013
المجيدري
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
بارك الله فيك
ReplyDelete